05/04/2022 - 14:02

ذاكرة 1948... نيسان أقسى الشهور | أرشيف

ذاكرة 1948... نيسان أقسى الشهور | أرشيف

طبريّا (1934)

 

المصدر: «مجلّة مشارف».

الكاتب (ة): حنّا أبو حنّا.

زمن النشر: 31 كانون الأوّل (ديسمبر)، 2002. 

 


 

بحيرة طبريّا رئة الجليل ومتنزّه أهله يقصدون شواطئها كلّما أتيحت لهم فرصة للراحة والتمتّع بالجمال.

و’البنط‘ على شطّ طبريّا موقع أثير. الجلسة في المقهى هناك في ساعات الأصيل حافلة بالسحر الّذي انسجم معه حتّى زعيق النوارس، وتَمَوْسَقَتْ فيه كركرة النرد وثرثرة الموج.

ولطبريّا مسحة سكّانيّة خاصّة؛ فقد عاش فيها خمسة آلاف من العرب مع ستّة آلاف من اليهود دون توتّر ظاهر. جُلّ اليهود يتحدّثون العربيّة وكثير من العرب يفهمون العبريّة. كان عمّ يحيى – الّذي استقرّ في طبريّا – يطلق على ابنه أكرم لقب ’الخرّيش‘ لأنّه كان يتصامم عن المطالب الّتي توجّه إليه، وأصبح ذاك لقبه على لسان الجميع دون أن يعرفوا مصدر الكلمة الّتي تعني ’الأصمّ‘ بالعبريّة.

أحبّ يحيى طبريّا بحجارتها البركانيّة السوداء، أحبّ سور ظاهر العمر ومسجده والحمامات المعدنيّة، بل وما ينطلق منها من أبخرة حادّة. أحبّ السفوح المتقوّسة المحيطة بالبحيرة كأنّها سطح داخليّ لقدر تحفظ فيه عمالقة الجنّ فاكهتها، وأحبّ أنسام التاريخ الّتي تهبّ منها. أحبّ دار عمّه وفيهم سميّه الّذي كان معلّمًا وقائدًا لفرق الكشّافة في البلد.

لذلك كانت الطعنة عميقة جدًّا في صدره ووجدانه حين رأى قوافل الحافلات واللوريّات العسكريّة تحمل الناس من طبريّا إلى الناصرة وتقذف بهم في الشارع في التاسع عشر من نيسان 1948.

يقول الشاعر ت. س. إليوت في قصيدته «الأرض اليباب»: "نيسان أقسى الشهور". ونيسان عنده يحمل أبعادًا أخرى، أمّا هنا فيتبادر إلى الذهن حالًا غدر الإنسان بالإنسان، والوطن الّذي حوّلوه أرضًا خرابًا لشعبه.

 

من يصدّق؟

عرب طبريّا كلّهم يقتلعون اقتلاعًا في يوم واحد وتذروهم العاصفة في مهبّ رياحها!

جبرا قردحجي، طبرانيّ عريق الجذور، حدّاد من عائلة حدّادين بنوا بيوتهم على سفح التلّة المشرفة على البحيرة وعلى البلدة القديمة الّتي يحتضنها السور. عمّه سالم جمع تحويشة العمر وبنى مخازن ومكاتب ليضمن دخلها شيخوخته.

كان جبرا يفتح صفحة العشرين من عمره حين حلّت النكبة، صقلت المهنة عضلاته وجسمه كما صقلت الأحداث رؤيته ونخوته. قال: "منذ قرار التقسيم الّذي اتخذته «هيئة الأمم المتّحدة» في تشرين الثاني سنة 1947، تعكّرت الأجواء في المدينة لكنّها لم تصل حدّ الصدام".

أصداء الصدام في بقيّة البلاد تثير الرعب فيحمى التوتّر.

أحسّ العرب أنّهم بدون سقف؛ لا تنظيم ولا مؤسّسات ولا سلاح. أمّا اليهود فلهم منظّماتهم العسكريّة، مثل «الهاغاناه»، «البلماح»، «الإتسل» و«الليحي» وغيرها، ولهم مؤسّساتهم المدنيّة كـ «الوكالة اليهوديّة» وغيرها.

الشبّان العرب يتحرّقون ليضمنوا الدفاع. وصلت حوالي خمسين بندقيّة على دفعتين، وأصبح كامل الطبريّ قائدًا لمجموعة من المناضلين. ثمّ جاء صبحي شاهين – وهو أيضًا طبرانيّ – ومعه جماعة من الرجال. لكنّ الفريقين معًا لم يبلغا المئة، ولم تكن مخازن للذخيرة ولا خطّة مدروسة.

في آذار بدأت اشتباكات بين الطرفين امتدّت خمسة أيّام. أين يحتمي الناس من الرصاص؟

تنهّد جبرا وارتسم في عينيه الألم ثمّ أردف: "دار عمّي مبنيّة من عقود كبيرة راسخة لها ساحة وبوّابة قويّة فتوافد إليها أهل الحارة. جمعهم الرعب وقلّة الحيلة. جاؤوا يحتمون من الرصاص. كلّ صليّة يسمعونها تصبّ في بئر الخوف.

سعيد زيدان – صاحب دكّان في الحارة – نقل كلّ ما في دكّانه من موادّ غذائيّة ليأكل المحتمون هناك... ثمّ ذبح خروف العيد ليطعم الناس.

في الساعة الحادية عشرة من ليل اليوم الخامس، استدعى القائد البريطانيّ زعماء العرب واليهود. حضر صدقي الطبريّ عن العرب وشمعون دهّان – رئيس بلديّة طبريّا، عن اليهود. قال البريطانيّ: "نحن مسؤولون عن البلد حتّى 15 أيّار، موعد انتهاء الانتداب، ولذلك عليكم أن توقفوا الاشتباكات حالًا وإلّا فإنّني سأضرب بالمدافع أيّ فريق يشرع بإطلاق النار".

امتدّت الهدنة حوالي الشهر، وبدت الأحوال وكأنّها هادئة، ثمّ كانت «مجزرة دير ياسين» الّتي كانت في التاسع من نيسان بعثت في القلوب رعبًا وذهولًا. إذن المعركة ليست بين قوّات مسلّحة. إنّهم يقتلون الشيوخ والحوامل والأطفال وكلّ من يطوله سلاحهم ليقتلعوا الناس من بيوتهم وأراضيهم لتخلوا لهم البلاد. أرادوا لتلك المجزرة أن تكون بوقًا ينذر من يبقى بالموت ويدعو إلى الرحيل كلّ من يريد الحياة.

واستمرّ جبرا: تجدّد القتال في طبريّا 11 نيسان. أُشيع أنّ نجدة ستأتي عن طريق قرية ناصر الدين. في مساء 13 نيسان جاءت قوّة يهوديّة مسلّحة متنكّرة بملابس عربيّة. رحّب بها أهل القرية باعتبارها النجدة لطبريّا، حصدهم الرصاص ولم ينجُ من السكّان غير حوالي أربعين شخصًا.

نزلت أخبار هذه المجزرة على طبريّا كالصاعقة وزادت من وتيرة الرعب.

في 16 نيسان (إبريل) فرض الإنجليز منع التجوّل وهدنة مدّتها ثلاثة أيّام. استفادت القوّات اليهوديّة من الهدنة فاحتشدت بأعداد كبيرة وخرقت الهدنة قبل انتهاء الموعد، وقامت بهجوم مخطّط ومركّز.

احتلّوا «فندق كروسمان» المشرف على الأحياء العربيّة ومضوا يحتلّون المواقع المختلفة. لم يوقفهم البريطانيّون المسؤولون عن البلاد حتّى 15/5/1948. صباح 19 نيسان دعا البريطانيّون العرب إلى التجمّع في الساحة القريبة من السور. سوط الذعر والمجازرة القريبة ساقهم إلى تلك الساحة. لم يكفّ القنّاصة عن إطلاق الرصاص على الحشد، أصابوا صبحي الحمَوي وإحسان كنجو.

عيسى يعقوب العوّاد ابن السبعين أصابه الرصاص في رجله.

الأب نتنائيل شحادة لم يحتمل ما يحدث. اعتمد على ثوب الكهنوت ومشى بين الرصاص نحو مركز الإدارة البريطانيّة طالبًا حماية الناس الّذين دُعوا للاحتشاد بالآلاف.

بعث المسؤول سيّارة مصفّحة لعلّها تردع القنّاصة. الرصاص خفّ لكنّه لم ينقطع.

أين ندفن القتلى الّذين صرعهم القنّاصة؟ المقبرة بعيدة والطريق إليها عبر مناطق الاحتلال اليهوديّة، في غمرة العويل دُفِنوا في السور.

جاء البريطانيّون بالباصات واللوريّات العسكريّة. بعض الباصات كانت لشركة «الجليل الناصريّة» الّتي تعمل على خطّ الناصرة – طبريّا وتظلّ هناك في الليل. خيّروا الناس بين وجهتين؛ إمّا إلى الناصرة أو إلى الأردنّ. ومنعوا أن يحمل أحد شيئًا من الأثاث أو سواه. قالوا: "ستعودون بعد أسبوع أو أسبوعين".

حُشِرَ الناس في الباصات واللوريّات. قافلة كبيرة تتوجّه إلى الناصرة، حوالي ثلاثة آلاف إنسان في حوالي سبعين سيّارة. كلّ سيّارة كأنّها جذع زيتونة روميّة اقتُلِعَ من الجذر ونُفِيَ من أرضه.

نساء تندب، وأطفال يصرخون ويخنقهم الحشد الذليل، ورجال يفركون أيديهم في لوعة وذهول:

باعونا ببلاش، باعونا أولاد الكلب.

تذكّر جبرا والده:

والدي رجل متديّن لكنّه انفجر. عندما توجّهت بعض النساء إلى الله ليرى ويشفق قال: "الله عنده بيت في تل أبيب".

أبو موسى يصل – أصله من صفد – يضرب كفًّا بكفّ والدموع تسيل على خدّيه. سألته: "ليش لحالك؟ وين أمّ موسى؟". قال: "أعطتك عمرها. رحت أجيب أغراض من البيت لقيتها مقتولة في الدار".

عندما كانت السيّارات تصعد على التلّ خارجة من المدينة كان اليهود يتفرّجون على المشهد بشماتة وهم يحرّكون أصابعهم وأيديهم بإشارات بذيئة ويطلقون الشتائم الفاضحة.

تلك هي قافلة الويل والضياع. هل تعرف ما معنى أن تفقد كدح العمر وتتحطّم كلّ الآمال في يوم واحد؟

وصلنا إلى الناصرة، أنزلوا جماعات منّا قرب مبنى البلديّة والبقيّة في ساحة الكراج.

نحن نزلنا في بناية «النافي»، كلّ عائلة أو عائلتين في غرفة. آخرون نزلوا في مبنى «الكازانوفا». المسؤولون عن الأديرة راحوا يفتحون أبواب المؤسّسات لاستيعاب المشرّدين. بعدنا بزمن قصير جيء بأهل بيسان أيضًا – وقد خيّروا كذلك بين التوجّه إلى الأردنّ أو إلى الناصرة – فازدادت كثافة اللاجئين.

عمّي سالم أصرّ على البقاء في بيته في طبريّا ليشرف على أملاكه، لكنّ الإنجليز أخرجوه بالقوّة. وضعوه في مصفّحة ومضوا به إلى «جسر المجامع»، من هناك راح إلى إربد.

في الناصرة طالبنا السلطات البريطانيّة بأن تتيح لنا الذهاب إلى بيوتنا في طبريّا لجلب الملابس والأثاث. بعد إلحاح وافقوا بعد أسبوعين أن نخرج في قافلة من الشاحنات بحراسة عسكريّة إلى طبريّا. عندما وصلنا إلى بيوتنا وجدناها فارغة تمامًا، بل سرقوا ما أمكنهم أن يقتلعوه ويحملوه كالبلاط والثريّات وغيرها. وهكذا خسرت كلّ عائلة مشرّدة – فوق خسارتها – مبلغًا باهظًا في تلك الأحوال.

أمّا ابن عمّك – سميّك – فقد نشط مع الكشافة في الإسعاف والإغاثة ولم يأتِ معنا. ذهب مع المناضلين إلى قرية المغار، وبعد حين جاء إلى الناصرة.

قال الراوي: كانت طبريّا أوّل مدينة يخليها البريطانيّون من أهلها ويشرّدونهم قبل حوالي شهر من انتهاء الانتداب الّذي يفترض أن يحمي الناس والبلاد حتّى اليوم الأخير، ولكنّهم اهتمّوا بأن يحقّقوا «وعد بلفور» بإقامة "وطن قوميّ لليهود"، فما غادروا البلاد إلّا وقد تسلّم اليهود مدن الساحل ومدن الغور ومناطق أخرى.

أمّا الزعامة الصهيونيّة فكان قبولها قرار التقسيم مدخلًا وفاتحة فحسب، فقد وضعوا الخطط لاحتلال المزيد من الأراضي العربيّة وترحيل أهلها. لذلك لم يعلنوا حتّى اليوم – رسميًّا – عن حدود الدولة.

 


 

عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والإبداعيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.

 

 

التعليقات